The Epistle Imam Ali's Famous Epistle To Malik Ashtar

عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر

( 28 )

Last Instructions

Do not make haste to do a thing before its time, nor put it off when the right moment arrives. Do not insist on doing a wrong thing, nor show slackness in the rectifying a wrong thing. Perform every thing in its proper time, and let everything occupy its proper place.

When the people as a whole agree upon a thing, do not impose your own view on them and do not neglect to discharge the responsibility that rests on you in consequence; for, the eyes of the people will be on you and you are answerable for whatever you do to them. The slightest dereliction of duty will bring its own retribution. Keep your anger under control and keep your hands and tongue in check. Whenever you fall into anger, try to restrain yourself or else you will simply increase your worries.

It is imperative on you to study carefully the principles which have inspired just and good rulers who have gone before you. Give close thought to the example of your prophet (Peace be on him), his traditions, and the commandments of the Book of God and whatever you might have assimilated from my own way of dealing with things. Endeavor to the best of your ability to carry out the instructions which I have given you here and which you have solemnly undertaken to follow. By means of this order, I enjoin on you not to succumb to the


(1) In Nahj al-Balاghah, this statement is as follows: Do not appropriate to yourself that in which the people have an equal share.

( 29 )

promptings of your own hears or turn away from the discharge of the duties entrusted to you.(1)

I seek the refuge of the might of the Almighty and of His limitless sphere of blessings, and invite you to pray with me that He may give us together the grace willingly to surrender our will to His will, and to enable us to acquit ourselves before Him and His creation; so that mankind might cherish our memory and our work survive. I seek of God the culmination of his blessings and pray that He may grant you and me His grace and the honour of martyrdom in His cause. Verily, we have to return to Him.

I invoke His blessing on the Prophet of God and his pure progeny.


(1) In Nahj al-Balاghah, the following statements come next: In his instructions that he said to me, the Prophet of God -peace be upon him and his family- urged me to keep up prayers and almsgiving and have an eye on the slaves that we possess. With this, I come to the end of my instructions to you. All power and might belong to Allah, Most High and Most Great is He, only. I ask Allah through the extent of His mercy and the greatness of His power of giving a good inclination that He may prompt me and you to advance a clear plea before Him and His creatures in a manner that may attract His pleasure along with handsome praise among the people, good effect in the country, an increase in prosperity and a heightening of honour; and that He may allow me and you to die a death of virtue and martyrdom. Surely, we have to return to Him. Peace be on the Messenger of Allah-may Allah show His blessings and plentiful salutation on him and his pure and chaste descendants; and that is an end to the matter.

( 30 )

( 31 )

وَمِنْ عَهْدٍ لَهُ (الإمامُ عَلِيٌّ) عَلَيْهِ السَّلامُ كَتَبَهُ لِلأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ- رَحِمَهُ اللهُ- لَمّا وَلّاهُ عَلى مِصْرَ وَأَعْمالِها حِينَ اضْطَرَبَ أَمْرُ أَمِيرِها مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ أَطْوَلُ عَهْدٍ كَتَبَهُ وَأَجْمَعُهُ لِلْمَحاسِنِ:

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذا ما أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَليٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مالِكَ بْنَ الحارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إلَيْهِ، حِينَ وَلّاهُ مِصْرَ: جِبايةَ خَراجِها، وَجِهادَ عَدُوِّها، وَاسْتِصْلاحَ أَهْلِها، وَعِمارَةَ بِلادِها.

أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإيثارِ طاعَتِهِ، وَاتِّباعِ ما أَمَرَ بِهِ فِي كِتابِهِ: مِن فَرائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لا يُسْعَدُ أَحَدٌ إلاّ بِاتِّباعِها، وَلا

( 32 )

يَشْقى إلاّ مَعَ جُحُودِها وَإضاعَتِها، وَأَنْ يَنصُرَ اللهَ سُبحانَهُ بِقَلْبِهِ وَ يَدِهِ وَلِسانِهِ، فَإنَّهُ -جَلَّ اسْمُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإعْزازِ مَنْ أَعَزَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَواتِ، وَيَزَعَها عِنْدَ الْجَمَحاتِ، فَإنَّ النَّفْسَ أَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاّ ما رَحِمَ الله.

ثُمَّ اعْلَمْ، يا مالِكُ، أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إلى بِلادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْها دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ ما كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ ما كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وَإنَّما يُسْتَدَلُّ عَلَى الصّالِحِينَ بِما يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلى أَلْسُنِ عِبادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخائِرِ إلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصّالِحِ، فَامْلِكْ هَواكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمّا لا يَحِلُّ لَكَ، فَإنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإنْصافُ مِنْها فِيما أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ، وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإنَّهُمْ صِنْفانِ: إمّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق. يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَتُؤْتي عَلى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطإ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ

( 33 )

الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضى أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلّاكَ، وَقَدِ اسْتَكْفاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاكَ بِهِمْ، وَلا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ. فَإنَّهُ لا يَدَىْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلا غِنى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلا تَنْدَمَنَّ عَلى عَفْوٍ، وَلا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ، وَلا تُسْرِعَنَّ إلى بادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْها مَنْدُوحَةً، وَلا تَقُولَنَّ إنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطاعُ، فَإنَّ ذالِكَ إدْغالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ. وَإذا أَحْدَثَ لَكَ ما أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إلى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلى ما لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإنَّ ذالِكَ يُطامِنُ إلَيْكَ مِنْ طِماحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، وَيَفِيُ إلَيْكَ بِما عَزََ عَنكَ مِنْ عَقْلِكَ.

إيّاكَ وَمُساماةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبّارٍ، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتالٍ.

( 34 )

الرجل المنصف

أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإنَّكَ إنْ ِلا تَفْعَلْ تَظْلِمْ! وَمَنْ ظَلَمَ عِبادَ اللهِ كانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبادِهِ، وَمَنْ خاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكانَ للهِ حَرْباً حَتّى يَنـزِعَ وَيَتُوبَ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعى إلى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إقامَةٍ عَلى ظُلْمٍ، فَإنَّ اللهَ يَسْمَعُ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ، وَهُوَ لِلظّالِمِينَ بِالْمِرْصادِ.

وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إلَيْكَ أَوْسَطُها فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّها فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُها لِرِضَا الرَّعِيَّةِ، فَإنَّ سَخَطَ الْعامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخاصَّةِ، وَإنَّ سَخَطَ الْخاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعامَّةِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ، وَأَكْرَهَ لِلإنْصافِ، وَأَسْاَلَ بِالإلْحافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإعْطاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْع، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخاصَّةِ، وَإنَّما عَمُودُ الدِّينِ وَجِماعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلأعْداءِ الْعامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صَغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.

( 35 )

وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعايِبِ النّاسِ، فَإنَّ فِي النّاسِ عُيُوباً إلْوالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَها، فَلا تَكْشِفَنَّ عَمّا غابَ عَنْكَ مِنْها، فَإنَّما عَلَيْكَ تَطْهِيرُ ما ظَهَرَ لَكَ وَاللهُ يَحْكُمُ عَلى ما غابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ. أَطْلِقْ عَنِ النّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغابَ عَنْ كُلِّ ما لا يَصِحُّ لَكَ، وَلا تَعْجَلَنَّ إلى تَصْدِيقِ ساعٍ، فَإنَّ السّاعِيَ غاشٌّ وَإنْ تَشَبَّهَ بِالنّاصِحِينَ.

المشيرون

وَلا تُدْخِلَنَّ فِي مَشْوَرَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلا جَباناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، وَلا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرائزُ شَتّى يَجْمَعُها سُوءُ الظَّنِّ بِالله.

شَرُّ وُزَرائِكَ مَنْ كانَ لِلأَشْرارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثامِ، فَلا يَكُونَنَّ لَكَ بِطانَةً، فَإنَّهُمْ أَعْوانُ الأثَمَةِ وَإخْوانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ واجِـدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرائِهِمْ

( 36 )

وَنَفاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصارِهِمْ وَأَوْزارِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعاوِنْ ظالِماً عَلى ظُلْمِهِ وَلا آثِماً عَلى إثِْمِهِ. أُولائِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولائِكَ خاصَّةً لِخَلَواتِكَ وَحَفَلاتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وَأَقَلَّهُمْ مُساعَدَةً فِيما يَكُونُ مِنْكَ مِمّا كَرِهَ اللهُ لإوْلِيائِهِ واقِعاً ذالِكَ مِنْ هَواكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلى أَنْ لا يُطْرُوكَ، وَلا يُبَجِّحُوكَ بِباطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإنَّ كَثْرَةَ الإطْراءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ.

وَلا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنـزِلَةٍ سَواءٍ، فَإنَّ فِي ذالِكَ تَزْهِيداً لإهْلِ الإحْسانِ فِي الإحْسانِ، وَتَدْرِيباً لإهْلِ الإساءَةِ عَلَى الإساءَةِ، وَالْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ ما أَلْزَمَ نَفْسَهُ. وَاعْلَمْ اَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعى إلى حُسْنِ ظَنِّ وآلٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسانِهِ إلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُوناتِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْراهِهِ إيّاهُمْ عَلى ما لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ. فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذالِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإنَّ حُسْـنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَبـاً

( 37 )

طَوِيلاً، وَإنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ وَإنَّ أَحَقَّ مَنْ ساءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ ساءَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ.

وَلا تَنْقُضْ سُنَّةً صالِحَةً عَمِلَ بِها صُدُورُ هذِهِ الأُمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ، وَلا تُحْدثَِنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ ماضِي تِلْكَ السُّنَنِ فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّها، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِما نَقَضْتَ مِنْها.

وَأَكْثِرْ مُدارَسَةَ الْعُلَماءِ، وَمُثافَتَةَ الْحُكَماءِ، فِي تَثْبِيتِ ما صَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ، وَإقامَةِ مَا اسْتَقامَ بِهِ النّاسُ قَبْلَكَ.

الرعية طبقات

وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُها إلاّ بِبَعْضٍ، ولا غِنى بِبَعْضِها عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْها جُنُودُ اللهِ، وَمِنْها كُتّابُ الْعامَّةِ وَالْخاصَّةِ، وَمِنْها قُضاةُ الْعَدْلِ، وَمِنْها عُمّالُ الإنْصافِ وَالرِّفْقِ وَمِنْها أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النّاسِ وَمِنْهَا التُّجّارُ وَأَهْلُ الصِّناعاتِ، وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلى مِنْ ذَوِي الْحاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَكُلٌّ قَدْ سـَمَّى اللهُ سَـهْمَهُ،

( 38 )

وَوَضَعَ عَلى حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنا مَحْفُوظاً.

فَالْجُنُودُ بِإذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاةِ، وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الأمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إلاّ بِهِمْ، ثُمَّ لا قِوامَ لِلْجُنُودِ إلاّ بِما يُخْرِجُ الله لَهُم مِنَ الْخَراجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جِهادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيما يُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ مِنْ وَراءِ حاجَتِهِمْ. ُثمَّ لا قِوامَ لِهاذَيْنِ الصِّنفَيْنِ إلاّ بِالصِّنفِ الثّالِثِ مِنَ الْقُضاةِ وَالْعُمّالِ وَالْكُتّابِ، لِما يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَواصِّ الأُمُورِ وَعَوامِّها، وَلا قِوامَ لَهُمْ جَمِيعاً إلاّ بِالتُّجّارِ وَذَوِي الصِّناعاتِ فِيما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْواقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِم مِمّا لا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ. ُثمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلى مِنْ أَهْلِ الْحاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ، وَفِي اللهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوالِي حَقٌّ بِقَدَرِ ما يُصْلِحُهُ وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوالِي مِنْ حَقِيقَةِ ما أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذالِكَ إلاّ بِالإهْتِمامِ وَالإسْتِعانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلى لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيما خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ َقُلَ.

( 39 )

الجنود

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلإمامِكَ وَأَنْقاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الأَقْوِياءِ، وَمِمَّنْ لا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ. ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الأَحْسابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتاتِ الصّالِحَةِ وَالسَّوابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشُّجاعَةِ وَالسَّخاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإنَّهُمْ جِماعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ، ُثمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ ما يَتَفَقَّدُ الْوالِدانِ مِنْ وَلَدِهِما، وَلا يَتَفاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإنْ قَلَّ، فَإنَّهُ داعِيَةٌ لَهُمْ إلى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ وَلا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمِ إتِّكالاً عَلى جَسِيمِها، فَإنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ.

وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ واساهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِم مِنْ جِدَتِهِ، بِما يَسَعُهُمْ وَيَسَعُ مَنْ وَراءَهُم مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ، حَتّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّـاً وَاحِداً فِي جِهـادِ

( 40 )

الْعَدُوِّ، فَإنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ، وَإنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإنَّهُ لا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إلاّ بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ، وَلا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلى وُلاةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطاءِ انْقِطاعِ مُدَّتِهِمْ، فَافْسَحْ فِي آمالِهِمْ، وَواصِلْ فِي حُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْهِمْ وَتَعْدِيدِ ما أَبْلى ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ، فَإنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجاعَ، وَتُحَرِّضُ النّاكِلَ، إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ ما أَبْلى، وَلا تُضِيفَنَّ بَلاءَ امْرِىءٍ إلى غَيْرِهِ وَلا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غايَةِ بَلائِهِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىءٍ إلى أَنْ تُعَظِّمَ مِنْ بَلائِهِ ما كانَ صَغِيراً، وَلا ضَعَةُ امْرِىءٍ إلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلائِهِ ما كانَ عَظِيماً.

الرد إلى الله ورسوله

وَارْدُدْ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ما يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الأُمُورِ، فَقَدْ قالَ اللهُ سُبْحانَهُ لِقَوْمٍ أَحَبَّ إرْشادَهُمْ:

( 41 )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.(النساء/59)

فَالرَّدُّ إلَى اللهِ الأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتابِهِ، وَالرَّدُّ إلَى الرَّسُولِ الأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.

الحكام بين الناس

ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ، وَلا تَمْحَكُهُ الْخُصُومُ، وَلا يَتَمادى فِي الزَّلَّة،ِ وَلا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إلَى الْحَقِّ إذا عَرِفَهُ، وَلا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلى طَمَعٍ، وَلا يَكْتَفِي بِأَدْنى فَهْمٍ دُونَ أَقْصاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالحُجَج، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُراجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ إيضاح الْحُكْمِ مِمَّنْ لا يَزْدَهِيهِ إطْراءٌ، وَلا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ، وَأُولائِكَ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَكْثِرْ تَعاهُدَ قَضائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ ما يَزِيحُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حـاجَتُهُ إلَى النّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ

( 42 )

لَدَيْكَ ما لا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذالِكَ اغْتِيالَ الرِّجالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذالِكَ نَظَراً بَلِيغاً، فَإنَّ هاذَا الدِّينَ قَدْ كانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الأَشْرارِ: يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيا.

عمال القضاء

ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِباراً، وَلا تُوَلِّهِم مُحاباةً وَأَثََرَةً، فَإنَّهُما جِماعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيانَةِ، وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَياءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتاتِ الصّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِى الإسْلامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإنَّهُمْ أَكَرْمُ أَخْلاقاً، وَأَصَحُّ أَعْراضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطامِعِ إشْرافاً، وَأَبْلَغُ فِي عَواقِبِ الأُمُورِ نَظَراً.

ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزاقَ، فَإنَّ ذالِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَناوُلِ ما تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إنْ خالَفُوا أَمْرَكَ، أَوْ ثَلَمُوا أَمانَتَكَ.

ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفـاءِ عَلَيْهِمْ، فَإنَّ تَعاهُدَكَ فِي السِّرِّ لإمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ

( 43 )

عَلَى اسْتِعْمالِ الأمانَةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَتَحَفَّظْ مِنَ الأَعْوانِ فَإنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيانَةٍ إجْتَمَعَتْ بِها عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذالِكَ شاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِما أَصابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عارَ التُّهْمَةِ.

أمر الخراج

وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَراجِ بِما يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإنَّ فِي صَلاحِهِ وَصَلاحِهِمْ صَلاحاً لِمَنْ سِواهُمْ، وَلا صَلاحَ لِمَنْ سِواهُمْ إلاّ بِهِمْ، لإنَّ النّاسَ كُلَّهُمْ عِيالٌ عَلَى الْخَراجِ وَأَهْلِهِ، وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَراجِ، لإنَّ ذالِكَ لا يُدْرَكُ إلاّ بِالْعِمارَةِ، وَمَن طَلَبَ الْخَراجَ بِغَيْرِ عِمارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ، وَأهْلَكَ الْعِبادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إلاّ قَلِيلاً.

فَإنْ شَكَوْا ثِقْلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطاعَ شِرْبٍ أَوْ بالَّةٍ أَوْ إحالَةَ أَرْضٍ إغْتَمَرَها غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِها عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ

( 44 )

ِالْمَؤُونَةَ عَنْهُمُ، فَإنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمارَةِ بِلادِكَ وَتَزْيِينِ وِلايَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلابِكَ حُسْنَ ثَنائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِما ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إجْمامِكَ لَهُمْ، وَالثِّقَةِ مِنْهُمْ بِما عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِكَ بِهِمْ. فَرُبَّما حَدَثَ مِنَ الأُمُورِ ما إذا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طِيبَةَ أَنفُسِهِمْ بِهِ، فَإنَّ الْعُمْرانَ مُحْتَمِلٌ ما حَمَّلْتَهُ، وَإنَّما يُؤْتى خَراجُ الأَرْضِ مِنْ إعْوازِ أَهْلِها، وَإنَّما يُعْوِزُ أَهْلُها لإشْرافِ أَنْفُسِ الْوُلاةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.

تولية الكتّاب

ثُمَّ انْظُرْ فِي حالِ كُتّابِك فَوَلِّ عَلى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيها مَكائِدَكَ وَأَسْرارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صالِحِ الأخْلاقِ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ الْكَرامةُ فَيَجْتَرِيءَ بِها عَلَيْكَ فِي خِلافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلإٍ، وَلا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إيرادِ مُكاتَباتِ عُمّالِكَ عَلَيْكَ، وَإصْدارِ جَواباتِها عَلَى الصَّوابِ عَنْكَ، وَفِيمـا يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنـْكَ، وَلا

( 45 )

يُضْعِفُ عَقْداً إعْتَقَدَهُ لَكَ، وَلا يَعْجِزُ عَنْ إطْلاق ما عُقِدَ عَلَيْكَ، وَلا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الأُمُورِ، فَإنَّ الْجاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.

ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيارُكَ إيّاهُمْ عَلى فِراسَتِكَ وَاسْتِنامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإنَّ الرِّجالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِراساتِ الْوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَراءَ ذالِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالأَمانَةِ شَيْءٌ، وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِما وُلُّوا لِلصّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كانَ فِي الْعامَّةِ أثََراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالأَمانَةِ وَجْهاً، فَإنَّ ذالِكَ دَلِيلٌ عَلى نَصِيحَتِكَ للهِ وَلِمَنْ وُلِّيْتَ أَمْرَهُ، وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لا يَقْهَرُهُ كَبِيرُها، وَلا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُها، وَمَهْما كانَ فِي كُتّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ.

التجار وذوو الصناعات

ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجّارِ وَذَوِي الصِّناعاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً إلْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِِ بِمالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإنَّهُم مَوادُّ الْمَنافِعِ، وَأَسْبابُ الْمَرافِقِ، وَجُلاّبُها مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطارِح

( 46 )

فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لا يَلْتَئِمُ النّاسُ لِمَواضِعِها، وَلا يَجْتَرِؤُونَ عَلَيْها، فَإنَّهُمْ سِلْمٌ لا تُخافُ بائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لا تُخْشى غائلَتُهُ.

وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَواشِي بِلادِكَ، وَاعْلَمْ، مَعَ ذلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِّنْهُمْ ضِيقاً فاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكاراً لِلْمَنافِع، وَتَحَكُّماً فِي الْبِياعاتِ، وَذالِكَ بابُ مَضَرَّةٍ لِلْعامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاةِ.

فَامْنَعْ مِنَ الإحْتِكارِ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوازِينِ عَدْلٍ، وَاَسْعارٍ لا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبائِعِ وَالْمُبْتاع، فَمَنْ قارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إيّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعاقِبْ فِي غَيْرِ إسْرافٍ.

الطبقة السفلى؛ الفقراء

ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُم مِنَ الْمَساكِينِ وَالْمُحْتاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسي وَالزَّمْني، فَإنَّ فِي هاذِهِ الطَّبَقَةِ قانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيْهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلاّتِ صَوافِي

( 57 )

الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإنَّ لِلأقْصى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأدْنى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ.

فَلا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التّافِهِ لأحْكامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إلَيْكَ مِنْهُم مِمَّن تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجالُ، فَفَرِّغْ لإولائِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّواضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إلَيْكَ أُمُورَهُمْ.

ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإعْذارِ إلَى اللهِ سُبْحانَهُ يَوْمَ تَلْقاهُ فَإنَّ هاؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجَ إلَى الإنصافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إلَى اللهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إلَيْهِ، وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ، وَلا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذالِكَ عَلَى الْوُلاةِ َثقِيلٌ وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلى أَقْوامٍ طَلَبُوا الْعاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ.

( 48 )

مجالس مفتوحة

وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحاجاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُم مَجْلِساً عامّاً فَتَتَواضَعُ فِيهِ للهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوانَكَ مِنْ أَحْراسِكَ وَشُرَطِكَ حَتّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيها حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ.

ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأنَفَ، يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بِذالِكَ أَكْنافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَكَ ثَوابَ طاعَتِهِ، وَأَعْطِ ما أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إجْمالٍ وَإعْذارٍ.

ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لابُدَّ لَكَ مِنْ مُباشَرَتِها: مِنْها إجابَةُ عُمّالِكَ بِما يَعْيا عَنْهُ كُتّابُكَ، وَمِنْها إصْدارُ حاجاتِ النّاسِ عِنْدَ وُرُودِها عَلَيْكَ بِما تَحْرثَُ بِهِ صُدُورُ أَعْوانِكَ، وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ ما فِيهِ، وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيما بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَواقِيتِ، وَأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسـامِ

( 49 )

وَإنْ كانَتْ كُلُّها للهِ إذا صَلُحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ.

الإرتباط بالله

وَلْيَكُنْ فِي خاصَّةِ ما تُخْلِصُ للهِ بِهِ دِينَكَ إقامَةُ فَرائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خاصَّةً، فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهارِكَ، وَوَفِّ ما تَقَرَّبْتَ بِهِ إلى اللهِ مِنْ ذالِكَ كامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ وَلا مَنْقُوصٍ بالِغاً مِنْ بَدَنِكَ ما بَلَغَ.

وَإذا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ لِلنّاسِ فَلا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلا مُضَيِّعاً، فَإنَّ فِي النّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحاجَةُ.

وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - حِينَ وَجَّهَنِي إلى الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ فَقالَ: صَلِّ بِهِمْ كَصَلاةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُن بِالْمُؤْمِنينَ رَحِيماً.

( 50 )

الإحتجاب عن الرعية قلة علم

وَأَمّا بَعْدَ هاذا فَلا تُطَوِّلَنَّ احْتِجابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإنَّ احْتِجابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأُمُورِ، وَالاحْتِجابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشابُ الْحَقُّ بِالْباطِلِ، وَإنَّمَا الْوالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ ما تَوارى عَنْهُ النّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ.

وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِماتٌ تُعْرَفُ بِها ضُرُوبُ الصِّدْق مِنَ الْكَذبِِ، وَإنَّما أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجابُكَ مِنْ واجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ؟ أَوْ مُبْتَلىً بِالْمَنْعِ فَما أَسْرَعَ كَفَّ النّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إذا أيِسُوا مِنْ ذْلِك، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حاجاتِ النّاسِ إلَيْكَ مِمّا لا مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ: مِنْ شَكاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إنْصافٍ فِي مُعامَلَةٍ.

ثُمَّ إنَّ لِلْوالِي خاصَّةً وَبِطانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثارٌ وَتَطاوُلٌ، وَقِلَّةُ إنْصافٍ فِي مُعامَلَةٍ، فَاحْسِمْ مادَّةَ أُولائِكَ بِقَطْعِ أَسْبابِ تِلْكَ

( 51 )

الأَحْوالِ، وَلا تُقْطِعَنَّ لإحَدٍ مِنْ حاشِيَتِكَ وَحامَّتِكَ قَطِيعَةً، وَلا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيها مِنَ النّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذالِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.

وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذالِكَ صابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذالِكَ مِنْ قَرابَتِكَ وَخاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ وَابْتَغِ عاقِبَتَهُ بِما يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإنَّ مَغَبَّةَ ذالِكَ مَحْمُودَةٌ.

وَإنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإصْحارِكَ، فَإنَّ فِي ذالِكَ رِياضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعيَّتِك، وَإعْذراً تَبْلُغُ بِهِ حاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ.

الصلح

وَلا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعاكَ إلَيْهِ عَدُوُّكَ للهِ فِيهِ رِضاً، فَإنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَراحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأَمْناً لِبِلادِكَ، وَلاكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإنَّ الْعَدُوَّ

( 52 )

َرُبَّما قارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذالِكَ حُسْنَ الظَّنِ، وَإنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ ما أَعْطَيْتَ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرائِضِ اللهِ شَيْءٌ اِلنّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوائِهِمْ وَتَشْتِيتِ آرائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذالِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَواقِبِ الْغَدْرِ، فَلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخْيِسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إلاّ جاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضاهُ بَيْنَ الْعِبادِ بِرَحْمتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إلى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إلى جِوارِهِ، فَلا إدْغالَ وَلا مُدالَسَةَ وَلا خِداعَ فِيهِ، وَلا تَعْقِدْ عَقْداً تَجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلُ، وَلا تُعَوِّلَنَّ عَلى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَأْكِيدِ وَالتَّوِْقَةِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ إلى طَلَبِ انْفِساخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِراجَهُ وَفَضْلَ عاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ الله فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقِيلُ فِيها دُنْياكَ وَلا آخِرَتَكَ.

( 53 )

إيّاكَ وَالدِّماءَ وَسَفْكَها بِغَيْرِ حِلِّها، فَإنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعى لِنِقْمَةٍ وَلا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَلا أَحْرى بِزَوالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّماءِ بِغَيْرِ حَقِّها، وَاللهُ سُبْحانَهُ مُبْتَدِيءٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبادِ فِيما تَسافَكُوا مِنَ الدِّماءِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَلا تُقَوِّيَنَّ سُلْطانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرامٍ، فَإنَّ ذالِكَ مِمّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، لإنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ، وَإنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَأٍ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَما فَوْقَها مَقْتَلَةً، فَلا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إلى أَوْلِياءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ.

وَإيّاكَ وَالإعْجابَ بِنَفْسِكَ وَالثِّقَةَ بِما يُعْجِبُكَ مِنْها، وَحُبَّ الإطْراءِ، فَإنَّ ذالِكَ مِنْ أَوْبَقِ فُرَصِ الشَّيْطانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ ما يَكُونُ مِنْ إحْسانِ الْمُحْسِن.

وَإيّاكَ وَالْمَنَّ عَلى رَعِيَّتِكَ بِإحْسانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيما كانَ
مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإنَّ الْمَنَّ
يُبْطِلُ الإحْسانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بَنُورِ الْحَقِّ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ

( 54 )

الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَالنّاسِ. قالَ اللهُ تَعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. الصف/2).

آخر الوصايا

إيّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوانِها، أَوِ التَّساقُطَ فِيها عِنْدَ إمْكانِها، أَوِ اللَّجاجَةَ فِيها إذا تَنَكَّرَتْ، أوِ الْوَهْنَ عَنْها إذا اسْتَوْضَحَتْ. فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ.

وَإيّاكَ وَالإسْتِئْثارَ بِمَا النّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغابِيَ عَمّا تُعْنى بِهِ مِمّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأُمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ. إمْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسانِكَ، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذالِكَ بِكَفِّ الْبادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الإخْتِيارَ، وَلَنَ تُحْكِمَ ذالِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعادِ إلى رَبِّكَ. وَالْواجِبُ عَلَيْكَ، أَنْ تَتَذَكَّرَ ما مَضى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فاضِلَةٍ، أَوْ أثَرٍ عَنْ نَبِيِّنا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتابِ اللهِ، فَتَقتَدِيَ بِما شاهَدْتَ مِمّا عَمِلْنا بِهِ فِيها، وَتَجْتَهِدَ

( 55 )

لِنَفْسِكَ فِي اتِّباعِ ما عَهِدْتُ إلَيْكَ فِي عَهْدِي هاذا، وَاسْتَوَْقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ لِكَيْ لا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إلى هَواها، فَلَنْ يَعْصِمَ مِنَ السُّوءِ وَلا يُوَفِّقُ لِلْخَيْرِ إلاّ اللهُ تَعالى، وَقَدْ كانَ فِيما عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - فِي وَصاياهُ تَحْضِيضٌ عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَما مَلَكَتْهُ أَيْمانُكُمْ، فَبِذالِكَ أَخْتِمُ لَكَ بِما عَهِدْتُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.